فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قال سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
قوله: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} الآية: ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدّم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدوّ لله، وأنه غير مستحق للاستغفار، وهذا يدلّ على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار، ومن أعداء الله، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين، أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصرّ على الكفر ومات عليه، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدوّ الله، فإن ثبوت هذه العداوة تدلّ على الكفر، وكذلك لم يعلم نبينا بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل.
وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه: دعاؤه إلى الإسلام، وهو ضعيف جدًا.
وقيل المراد بالاستغفار في هذه الآية: النهي عن الصلاة على جنائز الكفار، فهو كقوله: {وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجئ إلى ذلك، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم.
فقال: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ} وهو كثير التأوّه، كما تدل على ذلك صيغة المبالغة.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأوّاه، فقال ابن مسعود، وعبيد بن عمير: إنه الذي يكثر الدعاء.
وقال الحسن، وقتادة: إنه الرّحيم بعباد الله.
وروي عن ابن عباس: أنه المؤمن بلغة الحبشة.
وقال الكلبي: إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر.
وروي مثله: عن ابن المسيب، وقيل: الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد، روي ذلك عن عقبة بن عامر.
وقيل: هو الذي يكثر التلاوة، حكي ذلك عن ابن عباس.
وقيل: إنه الفقيه، قاله مجاهد والنخعي.
وقيل: المتضرع الخاضع، روى ذلك عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد.
وقيل: هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها، روي ذلك عن أبي أيوب.
وقيل: هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى.
وقيل: إنه المعلم للخير.
وقيل: إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله، قاله عطاء.
والمطابق لمعنى الأوّاه لغة أن يقال: إنه الذي يكثر التأوّه من ذنوبه، فيقول مثلًا: آه من ذنوبي آه، مما أعاقب به بسببها، ونحو ذلك، وبه قال الفراء، وهو مروي عن أبي ذرّ، ومعنى التأوّه: هو: أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء.
قال في الصحاح: وقد أوّه الرجل تأويهًا، وتأوه تأوهًا إذا قال أوّه، والاسم منه آهة بالمدّ، قال:
إذا ما قمت أرحلها بليل ** تأوّه آهة الرجل الحزين

و{الحليم} الكثير الحلم، كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب، ويصبر على الأذى.
وقيل: الذي لا يعاقب أحدًا قط إلا لله.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عمّ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله»، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، وأبو جهل وعبد الله، يعاندانه بتلك المقالة.
فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك»، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56].
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان، والضياء في المختارة، عن عليّ قال: سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن عليّ قال: أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب، فبكى، فقال: «اذهب فغسله وكفنه، وواره غفر الله له ورحمه»، ففعلت، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أيامًا ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} الآية.
وقد روي كون سبب نزول الآية: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة: منها عن محمد بن كعب، عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وهو مرسل.
ومنها عن عمرو بن دينار، عند ابن جرير، وهو مرسل أيضًا.
ومنها عن سعيد بن المسيب، عند ابن جرير، وهو مرسل أيضًا.
ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد، وأبي الشيخ وابن عساكر.
ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر، وهو مرسل.
وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه، واستغفاره لها، من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه، ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وعن بريدة عند ابن مردويه، وما في الصحيحين مقدّم على ما لم يكن فيهما، على فرض أنه صحيح، فكيف وهو ضعيف غالبه.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} إلى قوله: {كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإسراء: 24] قال: ثم استثنى فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ} إلى قوله: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} قال: تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو بكر الشافعي في فوائده، والضياء في المختارة، عن ابن عباس قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فتبرأ منه.
وأخرج ابن مردويه، عن جابر، أن رجلًا كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه فإنه أوّاه» وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين: «إنه أوّاه»، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء.
وأخرجه أيضًا أحمد قال: حدّثنا موسى بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، فذكره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد قال: قال رجل: يا رسول، الله ما الأوّاه؟ قال: «الخاشع المتضرّع الدّعاء» وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأوّاه، وإسناده عند ابن جرير هكذا: حدّثني المثنى، حدثني الحجاج بن منهال، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام، حدّثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد، فذكره.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} قال: كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله. اهـ.

.قال القاسمي في الآيتين:

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}
لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بيّن سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدًا، حيث نهى عن الإستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة، حتى مع الأقرباء، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول نور الإستغفار {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.
ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، بقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ}، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} ذلك {تَبَرَّأ مِنْهُ} أي: من أبيه بالكلية، فضلًا عن الإستغفار له.
وبيّن تعالى الحامل لإبراهيم على الإستغفار، بأنه فرط ترحّمه وصبره بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ} أي: كثير التأوه من فرط الرحمة، ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي: صبور على ما يعترضه من الإيذاء، ولذلك حلم عن أبيه، مع توعده له بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}، واستغفر له بقوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}، وذلك قبل التبيين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك.
وفي الآية تأكيد لوجوب الإجتناب بعد التبيين، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين، وهو في كمال رقة القلب والحلم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابًا وتبرؤًا.
تنبيهات:
الأول: ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في نزول الآية، ولما رآه بعضهم متنافية، حاول الجمع بينها بتعدد النزول، ولا تنافي، لما قدمناه من أن قولهم نزلت في كذا قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله. وقد يراد به أن كذا كان سببًا لنزولها، وما هنا من الأول، ونظائره كثيرة في التنزيل، وقد نبهنا عليه مرارًا، لاسيما في المقدمة. فاحفظه.
الثالث: قال عطاء بن أبي الرباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية. وهذا فقه جيّد.
الثالث: قال بعض اليمانيين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل. وهذا يحكى عن أبي جعفر: إذا قال: آه لم تبطل صلاته، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك، ومذهب الأئمة بطلانها، سواء قال: آه أو أوه، لأن ذلك من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة. انتهى.
الرابع: قال في العناية: أوّاه فعّال للمبالغة من التأوّه، وقياس فعله أن يكون ثلاثيًا، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلًا ثلاثيًا، وهو آهَ يَؤُوهُ، كقام يقوم، أوْهًا، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوّه وتأوّه قال:
إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل ** تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

والتأوه قول آه ونحوه مما يقوله الحزين، فلذا كني به عن الحزن، ورقة القلب. انتهى.
وأوّه بفتح الواو المشدّدة ساكنة الهاء، وأواه، وأوه بسكون الواو، والحركات الثلاث قال:
فأوْهِ على زيارةِ أمّ عَمْرو ** فكيف مع العدا ومع الوُشاةِ؟

وربما قلبوا الواو ألفًا، فقالوا: آهِ من كذا قال:
آهِ من تَيَّاكِ آهَا ** تَرَكَتْ قلبي مُتَاها

وآهٍ بكسر الهاء منونة وحكي أيضًا آها وواها، وفيها لغات أخرى أوصلها التاج إلى اثنتين وعشرين لغة، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيّات على ما لزم آخرها إلا آها، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأسف تأسفًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله». فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبدالله يعاونانه بتلك المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك». فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية. وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56].